يحيى الصامولى
عدد المساهمات : 1 تاريخ التسجيل : 01/04/2010
| موضوع: فقه الدعوة وأدب الداعية الثلاثاء أبريل 27, 2010 12:03 am | |
| فقه الدعوة وأدب الداعية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومَن والاه.
وبعد: فإنَّ من أهم الخصائص التي ماز الله - تعالى - بها أمَّةَ الإسلام من غيرها: أنَّها كما قال - سبحانه -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وخيريةُ هذه الأمَّة على غيرها من الأمم إنَّما جاءت من جهة كونِها أمَّةً مؤمنة بالله، وداعية إلى المعروف والخير، وناهية عن المنكر والشَّر.
وكان سبب تنزُّلِ اللَّعنة على بني إسرائيل أنَّهم كانوا كما قال الله - تعالى -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79].
فعِصيانُهم واعتداؤهم بأن كانوا لا يتناهَوْن عن المنكرات كان سببًا في لعنهم.
والأمَّة التي تموت فيها فريضةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أمَّة هالكة؛ لأنَّ فُشُوَّ المنكرات في أمَّة إنَّما هو إيذان بانهيارها وانفصامها.
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يدي الظالم، ولتأطرُنَّه على الحق أطْرًا، أو ليضربنَّ الله قلوب بعضِكم ببعض، ثم يلعنكم كما لَعَنهم))؛ حديث حسن، رواه أبو داود (4337).
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رأى منكم منكرًا فلْيُغيِّره بيده، فإن لم يستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعفُ الإيمان))؛ مسلم (189).
من أجْل ذلك؛ كان في دولة الإسلام هيئةٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعُنِيت أبلغَ العناية بذلك، ولا زالت بعضُ دول المسلمين اليوم على العهد. يَا رَبِّ فَارْحَمْ أُمَّتِي حَتَّى تَعُودَ إِلَى رِحَابِكْ وَاهْدِ الْوُلاَةَ لِكَيْ يَسُو سُوهَا بِوَحْيٍ مِنْ كِتَابِكْ
وأمدِّها بالعون.
والغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أن يلزمَ الناسُ طريقَ الله - عزَّ وجلَّ - وأن يستقيموا على كتابه وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وليست الغاية هي التعنيفَ وكثرة الكلام.
ولاجتِناءِ هذه الثمرة العظيمة لا بدَّ من لزوم ضوابطَ أدبيَّة معيَّنة للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ حتَّى لا يضيعَ جهدُه هباءً.
لذلك جاءت هذه المقالة تحت عنوان: "فقهُ الدعوةِ وأدبُ الداعية".
وأعنى بالداعية كلَّ مسلم؛ لأنَّ عليه كِفْلاً من الدعوة في محيط نفسه، وفى محيط رعيته - أيًّا كانت - وأخُصُّ مِن بين المسلمين جميعهم المشتغلين بالدَّعوة إلى الله - سبحانه - الواقفين لذواتهم عليها، فإنَّه ينبغي لهم أن يكونوا أعرفَ لهذا الفقه، وأكثر تخلُّقًا بهذه الآداب من غيرهم.
· · ·
دعواتٌ إصلاحيَّة كثيرة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، لم تَخفق إلاَّ لسوء العرْض.
فلو أنَّ إنسانًا أوتِي علمًا كثيرًا، ولم يؤتَ حِكمةً يستطيع بها إيصال نفْع هذا العِلم إلى غيره من بني جِلدته وملَّته - لاْنحصر نفعُه، ولم يؤتِ ثمارَه المأمولة.
وكثيرون هم الذين يُسيئون إلى ما معهم من الحقِّ لسوء عرْضهم له، وكثيرون أيضًا هم الذين يروِّجون لباطلهم؛ فقط لحسن عرْضهم، وروعة بيانهم، وجودة منطقهم.
قال - جلَّ شأنُه -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
وعليه؛ فالدعوة المثمرة تقوم على أُسسٍ ثلاثة: الحِكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الحسن؛ أي: الذي يُراد منه الوصول للحق، لا الإفحام وحب الظهور.
وسمعتُ بعض مشايخنا، وهو يعرض لتفسير هذه الآية، فكان مما قال: لا باللَّكْمَة والموعظةِ الخَشِنة، والجدال بالتي هي أخشن! فأعجبني ذلك منه واستحسنتُه جدًّا.
ومِن أبدع ما قيل: مُرْ بالمعروف بمعروفٍ، وانْهَ عن المنكـر بغير منكر.
لماذا إذا أراد إنسانٌ أن يُرشِد آخرَ إلى جميلٍ من القول، أو حسنٍ من السلوك، زمجَر وفَهِد وأَسِد، وتعالتْ صيحاتُه، وساق الحقَّ في أقبح سياق؟!
لماذا يحب الأسلوبَ النقديَّ الاستنكاري، وينأى عن الأسلوب الإرشادي اللَّطيف؟!
أحيانًا أرى ناسًا خائضين في منكرٍ من القولِ، أو قبيح من الفِعل، فأرجو أن يكفيني غيري مؤنةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقوم قائم فيكلِّمهم ويعظهم وينكر عليهم، فأتمنَّى أنْ لو كان صمَتَ وسَكَت، ولو ظلُّوا قائمين على منكرهم؛ لِمَا رأيتُ من سوءِ أدبه في عرْض الحق، وصَلَفِه، وغرورِه، وتعاليه، إنَّه أراد أن يغيِّر المنكر، فأتى بشيء أنكر منه!
إنَّ الداعية للمدعوين كالطبيب للمرضى، فلا يسوغُ أن تبْدُر منه لفظةٌ نابِيَة تسيء إلى شخصه، وتنزع الثِّقةَ منه، وترفع عنه وسامَ الوقار والهَيْبة والقدوة، وتجرح نفوسَ الناس، وهو إنَّما تحرَّك لسانُه لعلاج تلك النفوس.
وعلى كلِّ داعية أن يسأل نفسَه سؤالين، قبل كلِّ كلمة ينطق بها لسانُه: "لِمَ؟"، و"كيف؟"، فـ" لِمَ ": يعرف بها نيةَ نفسه؛ فإنَّه إذا صَلَحت النيةُ صَلَح العمل كلُّه، وأتى التوفيق الإلهيُّ، والعون الربانيُّ، ومَن ساءت نيتُه ولم تخلص لربِّه، وكَلَه الله إلى نفسه.
وأيضًا، فإنَّ خلوص نية الداعية وتجرُّدَها لربِّه - تعالى وتقدَّس - يمنحه قوةً وثباتًا على الحق، وإقدامًا على الدعوة، فإذا لم يكن الإخلاصُ كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثقيلاً على النفس كأنَّه جبل.
وأمَّا "كيف"، فهذا أهمُّ المُهمَّيْن من حيث ما يترتب عليه من اجتناء الثمرة، لا من حيث الثوابُ والأجر.
فكيف إذًا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
أوَّلاً: ينبغي للداعية أن يفقه - أوَّلَ كلِّ شيء - أنَّ ثمرة الدعوة ليست لُقمةً سائغة، وأن طريق الدعوة ليس مطمورًا بالزعفران، محفوفًا بالورود والرَّياحين، وإنَّما هو طريق صعب، كثيرُ المراقي والمنازل، يحفُّه قُطَّاع الطرق من كلِّ ناحية، وقد لا يَشَمُّ رائحة الثمرة، وإنَّما هو الجهد يبذل، والثوَاب يُدَّخر، وإنَّما السَّيل اجتماع النُّقط.
وليس هذا من قبيل التثبيط والتوهين، وإنَّما هو بيانٌ لواقع الأمر، حتى تستعدَّ نفوس الدعاة وتتأهَّب لخوض غمار الدعوة دون تهيُّب، ولمنازلة أعدائها دونَ توجُّس، ولمقارعة صناديد الضلال والزيغ بكلِّ إقدام وشجاعة.
إنَّه طريق شاقٌّ وصعب، ناح لأجله نوح، والْتقم يونسَ الحوتُ، وذُبح يحيى، ونُشِر بالمنشار زكريا، وابتُلى أيُّوب، ورُفع عيسى - صلَّى الله وسلَّم عليهم أجمعين.
ولأجله نَزَل الأمر الإلهي على خاتمهم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، فصدع - تأمَّل قوَّة اللفظ! - بأمر ربه بشجاعة نادرة، ورباطةِ جأْشٍ عظيمة، وصبر خارق، وعمل دؤوب، وجِدٍّ عديم النظير، وصلابة على الحقِّ رائعة، ومضى مضاءَ السَّهم في الفضاء مخترقًا كلَّ حواجز التثبيط والأذى والتوهين، ووثب وثبة الأسد؛ رام فريسة على شدَّةِ مسْغَبة، لا يلوي على شيء، يَسبق ولا يُسبق، واستلَّ سيفَ الحق فهوى به على هامةِ كلِّ المثبِّطات الدنيا، ورمى بسهام الحقيقة في نحور الأباطيل، فخارتْ قواها وهوتْ إلى الأرض، إلى أسفل، إلى حيث جاءت.
ابتسمتِ الدنيا لروعته، وأصاخ التاريخ بسمعِه لدعوته، وجثَا على رُكبتَيه يسجِّل أحداثَ الدعوة الجديدة التي ستخلق الدنيا خلقًا جديدًا.
ودارتِ المحاورات الساخنةُ بينه وبين قومِه، فبينما هم يثورون، ويزبدون، ويرعدون، وتغلي نفوسهم كالمِرْجل، إذْ به ثابتُ الجَنان، هادئ الأعصاب، مستكين النفس ينظر إليهم من عليائه في تواضعٍ جمٍّ نظرةَ المربِّي الأريب إلى صِبْية يتناحرون على حُطام، نظرةً مِلْؤها الرحمة والشفقة، رؤوفٌ رحيم.
فلو رأيتَه وهو يجوب بقاعَ الأرض، ويطوِّف بمدائنها، ويكسِر كلَّ قوانين المادية الزائفة، ويتخطَّى كلَّ حدود الأرضية النازلة، ويحطِّم كلَّ مقاييس الوقت والزمن، ويقطع الأميال ماشيًا في سبيل رسالته، ويبيت على الطوى في سبيل دعوته، ويُؤذَى ويُهان، ويُطرد ويُتوعَّد، ويُبتلى بما تَئِنُّ تحت وطأته الجبالُ، فيصبر ويحتسب.
لو رأيتَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو كذلك، لعَلِمتَ أنَّ الدعوة إلى الله - سبحانه - تحتاج إلى أبطال ذوى صبرٍ دؤوب، وجِدٍّ وشجاعة وهمَّة.
{لَقَدْ كَانَ لكُمْ في رسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ...} [الأحزاب: 21].
فهذه الهمَّةُ الفولازيَّة، وهذا المضاء الثاقب، وتلك العزيمة الصادقة، وذلك الصَّبر الخارق، كلُّ هذه من أهمِّ عوامل نجاح الدَّعوة، فالصبرَ الصبرَ: فَلَعَلَّ إِشرَاقَاتِ صُبْحٍ تَنْجلِي
ثم جاءتْ من بعده - صلَّى الله عليه وسلَّم - كوكبةٌ من أصحابه وتابعيهم والسائرين على دَرْبهم من أهل السُّنَّة والجماعة، فعلى النهج ساروا، وللرِّسالة حملوا، فلو أراد كاتبٌ أديب أن يُعبِّر عنهم بأسمى ما تجود به قريحتُه من بيان، وبأرقى ما يتراءى لفصاحته من بلاغة، لَنضبتْ معائنُ البيان لديه، ولَتقهقر القلمُ منحسرًا عن الكاغد؛ إذْ يرى فيهم من معاني العظمة، والرُّقيِّ الوجداني، والنفاسة الجوهريَّة - ما لا يستطيع التعبيرَ عنه بكلمات.
إنَّه يرى نفسَه بإزاء معنى من المعاني التي تَعِنُّ في آفاق وجدانه، ومثالٍ من الأمثلة التي تنسُجُها مُخَيِّلتُه في عالَم المُثُل، وأنموذجٍ من النماذج التي تشيِّدها الأفكار في عالَم الخيال.
بيْدَ أنَّها معانٍ متجسِّدة، وأمثلة حيَّة، ونماذج واقعة.
ولولا هذا لَمَا كان لهذه الدَّعوة العظيمة أثرٌ يُذكر في تاريخ البشر.
· · ·
ثانيًا: وينبغي للداعية أن يُثقل نفسَه بالعِلم النافع، والعمل الصالح؛ إذ هو في مقام الدَّعوة يقدِّم نفسه أسوةً للمدعوين وقدوة، وفاقد الشيء لا يعطيه، والحقُّ - جلَّ جلالُه - يقول: {أَتَأْمُرُونَ النَاسَ بالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم وَأَنتُم تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون} [البقرة: 44]، ويقول - جلَّتْ حكمتُه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].
وقالت العرب: لولا الوئامُ لهلك الأنام.
وفى الحِكم: فِعلُ رجلٍ في ألف رجل أبلغُ من قَوْل ألف رجل في رجل.
ونفوس الناس مطبوعةٌ على النُّفور من قوْل لا يقارنه عمل.
فليتأدبِ الداعية بكلِّ آداب الإسلام التي يدعو إليها ظاهرًا وباطنًا؛ حتى لا يكون حاله كما قال الشاعر: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلاَّ لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
والداعية حين يتأدَّب بأدب الإسلام، فإنَّه بذلك يرسم صورةً حسنة للاستقامة ولأهلها، ويقدِّم البرهان العملي لكلِّ الناس على أنَّ الاستقامة ممكنة، وأنَّ المنهج المدعو إليه مقدور وميسور، لا عَنتَ فيه ولا تَعسُّف، ويُطمئنهم كذلك إلى سلامة المنهج وصِحته.
ولينتبهِ الدعاة إلى أنَّ النفوس مجبولة على حبِّ التأسي والاقتداء، وقلَّما تجد النفوس المشرقة الوثَّابة التي تجوب رِياض الفضائل دونَ قائد أو أنيس.
وقد قالت العرب: لولا الوئام لهلك الأنام.
وقيل: طرقُ العلاءِ قليلةُ الإيناسِ.
فإذا لم ينصب الداعية نفسَه قائدًا وأنيسًا في عالَم الخير والفضائل، فمَن إذًا؟!
وليعلمِ الدعاة أنَّ الله - عزَّ ثناؤه - إنَّما اصطفاهم للدعوة إليه؛ لأنَّه فطرهم على أن يكونوا رؤوسًا في الخير، فالنزول عن هذه الدرجة الرفيعة والمكانة السامية هو تبدُّلٌّ للخبيث بالطيب.
فإذا أعوزهم قائدٌ وأنيس فها هو ذا الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابتُه الكِرام، ومَن سلك سبيلهم، وتاريخُ الإسلام حافل ٌبهم.
· · ·
ثالثًا: وعلى الداعية أن يراعي أحوال المدعوين، وأن يعتبر أفهامَ المخاطَبِين، فيخاطب كلَّ فئة من الناس حسبَ فهومهم.
عن أبى هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمع))؛ مسلم، المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع.
وفى تفسير قوله - تعالى -: {وَلَكِن كُونُوا ربَّانِيِّينَ بمَا كُتْنُم تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُم تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]، قال الإمام البخاري - رحمه الله -: "وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "كونوا ربَّانيِّين: حلماء فقهاء"، ويقال: الرباني الذي يُربِّي الناس بصِغار العِلم قبلَ كباره"؛ البخاري، كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل.
وفى نفس الكتاب والباب السابق قال عليٌّ - رضي الله عنه -: "حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسولُه؟!"
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما أنت محدِّث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنة"؛ مسلم، المقدمة، باب: النهي عن التحديث بكل ما سمع.
وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُحدِّث كلَّ واحد من الناس حسبَ حاله، فحين يسأله واحد من أصحابه: أيُّ العمل أفضل؟ فيجيبه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله))؛ البخاري، كتاب العتق، باب: أي الرقاب أفضل.
ويُجيب آخرَ سأله نفس السؤال بقوله: ((الصلاة لوقتها))؛ مسلم، كتاب الإيمان، باب: كون الإيمان.
ويجيب ثالثٌ بغير ذلك، ورابعٌ بغير هذه كلِّها... إلخ.
وهذا هو الصواب في فقه الدعوة؛ كما عَلَّمنا الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين أتاه الأعرابيُّ ثائِرَ الرأس يسمع الصحابة دَوِىَّ صوته، وسأله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الإسلام فأخبرَه، وأوضح له أركانه فقط، فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفلحَ والله إنْ صَدَق))؛ متفق عليه.
نعم، لم يُلزمه بأكثرَ من الأركان، وهذا مقتضى حال حديثي العهد بالإسلام.
وحين بعث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاذًا إلى اليمن بيَّن له مقتضى حالهم، فقال له: "إنك تأتى قومًا أهل كتاب"؛ (البخارى - كتاب الزكاة - باب أخذ الصدقة)؛ أى: لهم معاملة خاصَّة.
وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُثني على أصحابه بما فيهم من خِصال الخير؛ يتألَّفهم ويتودَّد إليهم بذلك؛ قال للأشج - أشج عبد القيس -: ((إنَّ فيك خصلتَينِ يحبهما الله: الحِلم والأناة))؛ مسلم، كتاب الإيمان، باب: الأمر بالإيمان.
وإثبات الفضل لأهله، والاعتراف بذلك يبعثهم إلى الاستجابةِ والإذعان للدعوة.
و{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
ويمكن لنا أن نقومَ بتقسيم المدعوِّين إلى ثلاثةِ أصناف - من حيثُ عقولُهم وفهومهم -: فطائفةٌ أصحاب نفوس مشرِقة، قويَّة الاستعداد لإدراك المعاني، قويَّة الانجذاب نحوَ المبادئ العالية، مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه.
وطائفةٌ من عوامِّ الناس؛ وهم البسطاء الذين يملكون نفوسًا سهلة، ضعيفةَ الاستعداد لإدراك المعاني، شديدة الإلف بالمحسوسات، قويَّة التعلُّق بالرسوم والعادات، قاصرة عن درجة البرهان.
وطائفةٌ ثالثة معانِدة مجادلة بالباطل، تقصد دحضَ الحق؛ لِمَا غلب عليها من تقليد الآباء ورَسَخ فيها من العقائد الباطلة.
فالسبيل إلى دعوة الفِئة الأولى هو أن يتحدَّث إليهم بالحِكمة، والفئة الثانية بالموعظة الحسنة التي تُثير المشاعر، وترقِّق القلوب، وتستجيش المدامع، والفئة الثالثة بالجِدال الحسن الذي يُراد به إيضاحُ الحق، وإزهاق الباطل لا ما يُراد منه مجرَّد الغَلَبة وحب الظُّهور.
وبين هذه الفئات الثلاثة فئاتٌ أخرى تجلُّ عن الإحصاء تجمع من هذه الصفات نِسبًا متفاوتة.
فالفَهْمَ الفهمَ فيما يَعِنُّ لفِكرك أيُّها الداعية من أفكار دعويَّة، لا تضعنَّ الشيء في غير موضعه فتُعاب، ولا تطلبن الشيءَ في غير مظنته فيُضنيك التعبُ قبلَ الوصول إلى مأمولك.
· · ·
رابعًا: وينبغي للداعية أن يكون لطيفًا أليفًا، طلْقَ الوجه، دائم البِشْر، غير عابس ولا هازل، ولا صخَّاب ولا فحَّاش.
وليفهمِ الدعاة جيِّدا ما يلي - "يُنظر كتاب "استمتع بحياتك" للشيخ: محمد العريفي" -: أنَّ الداعية الحسن هو الذي لديه العزيمةُ والإصرار دائمًا على أن يُطوِّر مهاراتِه الدعويةَ، ويستفيد من قدراته ومواهبه وتجارِبه.
وأنَّه ليس النجاح فقط أن تكتشف ما يحبُّ الآخرون، وأن تتعامل مع المدعوين بمقتضى ذلك، وإنَّما مِن النجاح أن تتعلَّم كيف تمارس مهاراتٍ تخطب بها وُدَّ الآخرين ومحبتهم.
ولا ينبغي أن تستخِفَّك التَّوافهُ فتستحمق على عجل، ولكنْ إذا صعدتَ الجبل، فانظر إلى القِمَّة، ولا تلتفت للصخور المتناثرة حولك، اصعد بخُطواتٍ ثابتة واثقة، ولا تقفزْ فتنزل قدمُك.
وأنَّ مهاراتِك الدعويَّةَ في التعامُل مع الناس وفي دعوتهم هي التي تحدِّد مدى انجذابهم إليك، وحبهم لِمَا تدعو إليه.
وأنَّك أيُّها الداعية مسؤول عن تشكيل ثقافة الناس، وفكرتِهم عن الحياة.
وأنَّك متى لم تحتجْ إلى الناس احتاج الناس إليك، فإذا لم تطمعْ في مالِهم طمعوا هم في عِلْمك.
ولعلَّ ابتسامةً رقيقة تفتح لك قلوبًا كثيرة.
وأنَّ الناس قد يحتملون فقرَ إنسان أو دمامته أو بساطتَه إذا كان خفيفَ الظلِّ، دائم البِشر؛ لكنَّهم قلَّ أن يصبروا على ثقيلِ الظلِّ، سيِّئ الخُلق.
وعامل البَشر على أنَّهم بشر، لا على أشكالهم أو أموالهم أو وظائفهم.
ولا تحسبِ الناس نوعًا واحدًا، فلهم طبائعُ لستَ تحصيهن.
وتحدَّث إلى الناس بما يستمتعون هم باستماعه، لا بما تستمتع أنت بحكايته.
واعلمْ أنَّ أوَّل لقاء يطبع 70% من الصورة عنك، فعامل كلَّ إنسان على أنَّ هذا هو اللِّقاء الأوَّل والأخير.
وأنَّك أيها الداعية تتعامل مع القلوب والنفوس، لا مع الأبدان.
وأنَّك كلَّما أشعرتَ الناس بقيمتهم، وأظهرتَ الاهتمامَ بهم، ملكتَ قلوبَهم وأحبُّوك، فأظهِر لهم عواطفَك، وكن صريحًا، عبِّر لهم عن حبِّك إيَّاهم، وعن فرحك بلقياهم.
وكن لَمَّاحًا، واعلم أنَّه مهما بلغ الشخصُ من النجاح إلاَّ أنه يبقى بشرًا يطرب للثناء، فأثْنِ على أهل الفضْل والخير بما هم أهلُه، تكسبْ قلوبَهم.
ولا تتدخل في شؤون الناس إلاَّ لضرورة ومنفعةٍ لهم ولك.
ولا تجرحْ مشاعر الآخرين، وإن أساؤوا، إليك، وإن أثقلوا عليك.
واجْنِ العسلَ، ولا تكسر الخليَّة.
واعلم أنَّ الناس متى علموا أنَّك تعرف لهم حسناتِهم كما تعرف سيِّئاتهم، فإنَّهم يقبلون منك التوجيه والنصح.
ومُرْ بالمعروف بمعروفٍ، وانْهَ عن المنكر بغير منكر.
واعلم أنَّ المطلوب أن يعرف الناسُ أخطاءَهم، وليس شرطًا أن يُصحِّحوها أمامَك، فلا تعجل، ولا تيأس.
وادفع بالتي هي أحسن، كن كما قال القائل: وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي وَبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمُ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
ولا تلُمِ الناس وتستخفَّ بهم، وتنتقدهم بسخرية، وضعْ نفسك مكانَهم.
ولا تروِّج الشائعات، فبئس مطية الرجل: "زعموا"، وكفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمع.
وقبل أن تبدأَ في نزْع شجرة الشرِّ من قلوب الآخرين، ابحثْ عن شجرة الخير فيهم واسْقِها.
واجعل لسانك عذبًا، فالكلمةُ الطيِّبة صدقة.
ونبِّه على الخطأ باختصار، ولا تُلْقِ محاضرة.
وإذا كنتَ جادًّا، فكن بطلاً، وابدأِ الآن.
وبعد، فهذه كلماتٌ قلائل في "فقه الدعوة وأدب الداعية"، وهو جهد مُقِلٍّ، نسأل الله - تعالى - أن ينفعنا به والمؤمنين، آمين.
والحمد لله أوَّلاً وآخرًا
الإهداء إلى شيخى وحبيبى فى الله فضيلة الشيخ عبد الله السيد.
| |
|